بالإجماع، أبهر الروس العالم بجمال بلادهم وفي تنظيم مونديال 2018، الذي تلعب أخر مبارياته غدا «الأحد»، وجذبوا الانتباه إلى بلادهم الجميلة، بخلاف صورة غرست في أذهان الكثير، على مدى سنوات طوال، فألفوها بلداً ساحراً، مفعماً بالجمال والحيوية والنشاط؛ فتسبر، وأنت تسير في طرقاتها، متحفاً يضمّ مئات آلاف القطع الفنية الفريدة. وأهل روسيا لطفاء مضيافون يشكلون خليطاً لعدد كبير من الثقافات والأعراق، انعكست بمجملها على رُقيّ الشعب وزيادة تهذيبه.
فعلها «الأوغاد»؛ إنّها صفة ينعت بعضهم بها الروس، إذ لطالما اشتغل الغرب على وصمهم بها، ونجحت «هوليوود» في غرس هذه الصورة، عبر عشرات الأفلام السينمائية، لتنفير الناس من هذا البلد العريق، لكونه يشكل تهديداً سياسياً وعسكرياً للغرب على مدى عقود؛ فأتت «الساحرة المستديرة»، لتقلب الموازين، وتسحر الألباب، وتلفت الانتباه إلى هذا البلد «القارة»، فتقرب منها الناس أكثر واكتشفوها، وأيقنوا أنهم كانوا مخطئين، لأنهم تأخروا في زيارتها.
في كل عام، ومع اقتراب موعد الإجازة السنوية، تهيمن الروح التقليدية في السفر علينا، ونأسر أنفسنا بمسألة تميز الخدمات، ومستوى الأمن، فنقصد بلاداً تعوّدنا زيارتها، بذريعة الخوف من المجهول أو المصادفات التي قد تفاجئنا في البلد الجديد، ولكن روسيا كانت بعيون كل من زارها لحضور «مونديال 2018» محط إعجاب وانبهار، في بنيتها التحتية واستعداد سكانها للحدث العالمي، ورقيّ مطاراتها وإجراءاتها، وتذليل كل الصعاب والتعقيدات، فضلاً عن الناس المضيافين بطبيعتهم وسلوكهم.
إنها ليست بلاد النساء الجميلات فقط، وبعيداً عن السياسة والمواقف التي قد لا ترضي الكثير؛ إنها بالفعل بلاد جميلة، بلاد العلماء ميخائيل لومونوسوف، وأندرية كاراطائف، ونيقولاي فافلوف، ورائد الفضاء جاجارين، وأحفاد الأدباء العظام، ليو تولستوي، ونيقولاي غوغول، ودوستويفسكي، وتشيخوف ومكسيم جوركي وبوشكين العظيم شاعر روسيا الأشهر في القرن التاسع عشر، والموسيقي المبدع تشايكوفسكي، ووطن فن الباليه الراقي رُقيّ روح الإنسان.
في الثقافة الروسية ومفاهيمها، الإنسان هو من يصنع الإبهار، وليس الآلة، بعكس الثقافة الأمريكية التي تقوم على أن الآلة تصنع الإبهار، وبدا الفارق بين الثقافتين الروسية والأمريكية، واضحاً جلياً في أوليمبياد موسكو 1980، حين جسَّد عرض الافتتاح عمق الثقافة الروسية، وأساسها الإبهار في الإبداع الإنساني، وأوليمبياد لوس أنجلوس 1984، التي شكلت الآلة فيها مصدر الإبهار.
وفي مونديال 2018 الحالي، جددت روسيا نفسها، وقدمت سلوكاً حضارياً أخّاذاً، فالروس، بكل هذا العمق الثقافي، بنوا بلداً غاية في الجمال والروعة وسكاناً أكثر جمالاً وروعة.
في حب روسيا
كلام إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا»، عن أنه ومشجعي اللعبة في العالم، وقعوا في حب روسيا، لما قدمته من تنظيم مميز وظهور رائع للمنتخبات، لم يكن مجرد مجاملة؛ بل كان ذلك لسان حال كل من سافر إلى روسيا، وشاهد الحدث على أرض الواقع.
روسيا اهتمت بالضيوف حتى أدق التفاصيل، وبرغم أن الشعب ليس كله معنياً بتفاصيل كرة القدم، فإنهم جميعاً قدَّموا لوحة متكاملة لاستقبال الزوار، وحولوا العرس الكروي العالمي إلى احتفال أممي، تتمتع شعوب العالم قاطبة بكل لحظة فيه، وفاقت كل الدول التي سبقتها في تنظيم المونديال، لأنها درست كل التجارب السابقة واستفادت منها، وبنت عليها.
حتى الجماهير التي هُزمت منتخبات بلدانها، وخرجت من المنافسة قبل أن تصل إلى المربع الذهبي، كانت متصالحة ومتسامحة مع فرقها والآخرين، وتجاوبت مع عظمة تنظيم المنافسات، وتقبلت الهزيمة بروح رياضية، واستمتع المغلوب والغالب بما قدمه الطرفان من فنون كروية حديثة وممتعة.
الطريق إلى سانت بطرسبرج
سانت بطرسبرج، «يونسكو عالمي» وبها أهم موانئ روسيا في بحر البلطيق، قصر استخدمه القياصرة أثناء حكمهم لروسيا، حتى عام 1917، ويضمّ معالم فنية اشتهرت في العالم، منها: متحف الأرميتاج الشهير، الذي يحوي ثلاثة ملايين تحفة فنية، ويعدّ واحداً من أكبر المتاحف في العالم، وبيترهوف وهو سلسلة من القصور والحدائق، وقصر الشتاء، المقر الرسمي لإقامة قياصرة روسيا منذ عام 1732 حتى سقوط حكمهم، ومتحف التاريخ الروسي، وهو مستودع فريد من الكنوز الفنية، يضم أكثر من 400 ألف قطعة فنية تاريخية، والنصب التذكاري لبطرس الأكبر أيضاً، ومكتبة روسيا الوطنية في سانت بطرسبورج، التي تعدّ من بين كبريات المكتبات في العالم، وتقدر محتوياتها ب 36 مليون كتاب، كما تشمل مكتبتي الأديبين فولتير وديديرو.
في سان سانت بطرسبرج، إذا كان التاريخ يتحدث عن نفسه في هذه المدينة الرائعة الواقعة في دلتا نهر نيفا، شمال غربي روسيا، فإن الناس طيبون بدرجة كبيرة، ولديهم إنسانية راقية لا يضاهيها سوى بريق عيونهم وجاذبية ملامح وجوههم. قلوبهم ترتقي بقواعد الجمال والذوق والإنسانية.
اكتشفنا خلال الأيام التالية من زيارتنا لروسيا، أن هذه الدولة تمتلك بنية تحتية متميزة من مطارات وطرق، ومراكز تسوق مبهرة، ومطاعم ووسائل نقل جماعية، أهمها مترو الأنفاق الذي يعمل بفعالية عالية، رغم تأسيسه قبل عشرات السنين، كما ترتبط مدنها بشبكة سكك حديدية فائقة السرعة والدقة.
وموسكو عاصمة روسيا، من أكبر المدن اكتظاظاً بالسكان في العالم، هي مركز السياسة والاقتصاد والثقافة والمال والتعليم والنقل، وتعدّ سابعة أكبر مدينة في العالم، وهي تقع على نهر موسكفا في المنطقة الأوروبية من روسيا. وتضم الكثير من المؤسسات العلمية والتعليمية، والمرافق الرياضية كذلك، فهي تمتلك نظام نقل معقداً يشمل مطارات دولية، ومحطات سكك حديدية عدة، ونظام المترو الثاني الأكثر ازدحاماً في العالم، بعد طوكيو.
النجاح الجماهيري
عندما انطلقت نهائيات كأس العالم في روسيا، لم يدر في خلد مشاهدي الساحرة المستديرة وعشاقها وخبرائها، أن أحداث البطولة ستنطوي على هذا الكم العظيم من الإبهار والإبداع، والمفاجآت المدوية التي أثرت البطولة وجعلتها واحدة من أهم الدورات في تاريخ المونديال الذي انطلقت دورته الأولى عام 1930 في أوروغواي.
النجاح الجماهيري، واهتمام جمهور البلد المنظم بالمونديال، يعدّ العامل الأهم في نجاح البطولة حتى الآن، وربما كان الفارق كبيراً في براعة التنظيم ومستواه، فالإقبال الجماهيري يعطي طعماً مختلفاً للمنافسة، وغالباً ما تجد الملاعب مكتظة بالجمهور، فضلاً عن التجمعات في المناطق المخصصة في الميادين، للمتابعة عبر شاشات كبيرة، وملايين المشاهدين عبر التلفاز.
بلد جميل ومضياف
راسيا، وأنخرتينا، وميهيكو وبرازيوو. عندما التقى العالم في روسيا تقاربت الشعوب بشكل أكبر، واكتشفنا أسماء الدول كما يلفظها أبناؤها؛ فالأولى هي روسيا بلفظنا والثانية الأرجنتين والثالثة المكسيك والأخيرة البرازيل. المتعة الكبرى التي تحصل عليها من حضور منافسات المونديال، ليس متابعة المباريات حية ومباشرة من ملاعبها فقط، فبداية أنت تلتقي معظم شعوب الأرض وأجناسها، تتعرف إلى من تريد، وتكون صداقات سياحية تفيدك وتفيد الآخرين مستقبلاً.
وليس من الضروري أن تكون جيوبك منفوخة بالعملات الصعبة والسهلة، لتتابع المباريات من داخل الملاعب، حيث إن أثمان تذاكرها ليست بمقدور الجميع، ولذلك أقاموا شاشات عملاقة في ملاعب فرعية، وميادين عامة وحدائق، ليتسنى للجميع الاستمتاع بالعرس الكروي الكبير. الروسي والزائر تمتعا بالمونديال، تماماً، كما حصدت معظم المدن الروسية الكبرى المليارات، جراء ذكاء الدولة المركزية في توزيع ملاعب المنافسات على جميع أقاليم البلاد، لتنتعش كل المناطق اقتصادياً وتجارياً، وتستفيد من البنية التحتية المرافقة للمونديال، من فنادق ومطاعم وطرق وملاعب وغيرها، فيعمّ الخير الجميع، بلا استثناء. في ختام رحلتنا أجمع الأصدقاء على أن روسيا بلد جميل، مضياف، طقسه ساحر؛ قديم بما يكفي لإشباع نهم محبي التاريخ، وعصري يلبي احتياجات عشاق الحداثة، وهو يستحق الزيارة مجدداً، فهناك وجه آخر لروسيا، لا بدّ أن يكتشفه الزائر.
تنظيم رائع
أينما اتجهت في المدن الروسية المستضيفة للمباريات، تبهرك دقة التنظيم والاهتمام باللمسات الجمالية في التفاصيل كافة، ويبدو أن الروس لم يكونوا في العقود الماضية على قدر كاف من المهارة للدعاية لبلادهم وأنفسهم، واكتفوا بالجمال الرباني، لكنك وللوهلة الأولى تجد نفسك في قلب دولة عظمى شئت أم أبيت.
كل ما شاهدناه على أرض الواقع، كان يقول إن كل مدينة تضجّ بتاريخ وحضارة وتكنولوجيا وتنوع اقتصادي. وكذلك كل أنواع المواصلات بين المدن وداخلها، وحياة الناس سهلة وكل شيء متوفر، وهو ما لمسناه في المدن الثلاث التي تسنّت لنا زيارتها.
قبل الوصول، كان الجميع متخوفين من احتمال عدم مقدرة الروس على تنظيم حدث رياضي عالمي بحجم المونديال، خاصة مع الضغط البشري المتوقع على الخدمات، لكننا فوجئنا بمستوى تنظيمي رائع، وخدمات راقية، للسائح والمشجع، فهناك «تأشيرة الدخول» متعددة الزيارات لمن يملك تذكرة المباراة، ومن حين وصولك إلى المطار، تستقبلك تسهيلات ضخمة وتنظيم راقٍ، ووسائل مواصلات مجانية ومتعددة.
وكان وجود ضغط على المطاعم والفنادق، أمراً طبيعياً ومألوفاً في مثل هذه الأعراس المونديالية الكبرى.
والمتطوعون الروس في كل مكان وبكل اللغات، والحضور الأمني كثيف، والجميع يتسابقون لخدمة الجمهور والزوار.
لقد كان تنظيم كأس العالم رائعاً وفي دولة رائعة.