رومانيا، أرض التلال الغريبة، وبلاد «فلاد الثالث المخوزق» وهو أحد أفراد عائلة دراكوليشتي التي تُمثل بدورها فرعاً من أفرع عائلة بأسراب متشعبة، والذي اشتُهر بلقب دراكولا قبل أن يُطلق عليه اسم فلاد المخوزق، أو حسب ما تقول الأسطورة - ولكن الجنوب الشرقي من هذه البلاد موطن لحياة برية عذراء، والأراضي الرطبة، والغابات، والمنحدرات الصخرية.
كلما ذهبت في أراضيها بعيداً شاهدت حشرة اليعسوب التي بحجم اليد وكذلك تمر السلاحف بالجوار زاحفة على نسق وإيقاع واحد، بالإضافة إلى مجموعات الضفادع بنقيقها المنتظم، فقد تجد العذر لنفسك إذا ضللت طريقاً في المنطقة المحيطة ووصلت حتى إلى الغابات الاستوائية المطيرة.
لا مثيل لهذه الطبيعة في كل أنحاء أوروبا، فلن تسمع إلا عن مخوزق واحد: «طائر النهس» أو الطائر الجزار، وهو طائر الصرد العملاق، رمادي اللون، يعتاش على الطيور الصغيرة والحشرات وصغار الثدييات، حيث لقب دراكولا باسمه.
مرحب بك في البحر الأسود
هذه هي البحيرة التي ينتهي عندها نهر الدانوب الذي يبلغ طوله 2,850 كلم ممتداً من غابات ألمانيا السوداء مروراً بعشر دول أوروبية، لينتهي به المطاف في البحر الأسود، كما أن الأعشاش المبنية من القصب والممتدة حتى الغابات والمنحدرات الصخرية تثري مجموعة مذهلة من الحيوانات البرية.
يقع البحر الأسود لرومانيا بين أوكرانيا في اتجاه الشمال وبلغاريا في اتجاه الجنوب، أما إقليم دبروجة الذي يحتضن الساحل والدلتا، كجزيرة بورينو الإندونيسية بالقرب من البلقان، فمحميات المحيط الحيوي التي تذوب أراضيها الرطبة داخل البحر الأسود المتثائب يعتبر موطناً لأكثر من 300 طائر، حيث تتوالد نصفها هنا في هذه المنطقة، فحتى الذين ليس لديهم أحاسيس مرهفة قد يعجبون بطيور دبروجة الزاهية الألوان: فطيور «آكلة النحل» تنطلق بسرعة فائقة من أماكن تعشيشها في المنحدرات محدثة وميضاً بألوانها القرنفلية والزرقاء، بينما مسحة اللون الأخضر تضفي عليها جمالاً كجمال الأسطوانات الموسيقية الأوروبية الرائعة، تحوم الطيور المحلية الجارحة حول منحدرات دبروجة الصخرية، تماماً في الجنوب ناحية باباداغ ، أما السلاحف والثعابين التي يبلغ طولها مترين فتستوطن وسط مروج الأزهار البرية ووسط الغابات الظاهرة للعيان.
نزهة إلى نهر دلتا الدانوب
تجلب الطيور المهاجرة معها إلى الدلتا نوبات جنونية من اجل الغذاء، فمن شهر يونيو/حزيران حتى منتصف سبتمبر تصل طيور البجع البيضاء بأعداد كبيرة، فالشتاء يجلب أعداد الإوز ذات الصدور الحمر الموجودة في العالم برمته لتترنح بالجوار عند مياه المحميات.
تمنحك السفن الكبيرة التي تمخر عباب الدلتا إحساساً وشعوراً بالحياة البرية، فقد تستطيع الذهاب قريباً من أسراب الإوز على متن قارب صغير، مع إمكانية الوصول إلى القنوات المائية الضيقة حيث الأجواء الأكثر سحراً ودعة.
كما يمكنك رؤية أغصان الرماد المتدلية داخل المياه، أثناء تجوالك قبالة القنوات حول الدلتا، وكذلك تشاهد حشرات اليعسوب المنيرة بالعشرات فوق جذوع الأشجار الضخمة تنهش ضفاف النهر، مع أشعة الشمس التي تثقب الأغصان، وطائر ابومنجل الذي يتوارى خجلاً عند رؤية البشر - وعندما تشعل الزوارق محركاتها لتشق طريقها نحو المحميات، فلا شيء يكسر الصمت غير رشح الماء وهديل البولفينش.
من الغابات إلى المنحدرات
بالعودة إلى اليابسة، ستجد أن غابات دبروجة ومنحدراتها الصخرية تزخر بالجمال الطبيعي - لو كنت تعرف أين تنظر، فجنوب تولسيا تقبع باباداغ بغابات رمادها وأشجار ليمونها، وفي ظللها تجد الدليل السياحي دانيال بترسكو وقد وقف رافعاً يديه يشير إلى السياح بالصمت، فهناك زغرودة سريعة تخترق حاجز الصوت، إنه طائر «خنشع ليموني»، ومن ثم يوميء دانيال برأسه قائلاً: «إنه من الطيور المغردة في هذه الغابات».
لقد مضى عشرون عاماً منذ أن يقود خبير الحياة البرية دانيال بترسكو الزوارق السياحية ونزهات الطبيعة في أنحاء دبروجة، ففي الوقت الذي يبحث فيه السياح مناظيرهم، كان دانيال قد فرغ من تقليد صوت الطائر الداعي للتزاوج، ووجّه تلسكوبه القوي والحديث نحوه.
هناك الكثير لمراقبته، ففي وسط هذه الفرجة داخل الغاب تمشي السلاحف الهوينا فوق الأعشاب الخضراء الطويلة، مع زهرات الأوركيدا المتفتقة والمتفجرة من داخل التربة، وكذلك تسمع صوت الطيور المنشدة، بما في ذلك صوت نقار الخشب.
عند وصولنا شمال غربي باباداغ، عبرنا المنحدرات الصخرية وصولاً إلى منحدرات جبال ماجين وهي متبرمة من فوقنا، إلى جانب السناجب المنطلقة في الأرجاء أثناء محاولة الطيور الجارحة الانقضاض عليها، أما الصقور ذات الأرجل الحمراء فتوجد بكامل أسرابها هنا، أما النسور ذات الأذيال البيضاء، الأكبر في القارة الأوروبية، فترسم صوراً ظلية، بينما الرعاة العابرون ينظرون إلى أجهزة التلسكوب خاصتنا بشيء من الدهشة الممزوجة بالريبة.